في قلب مدينة غزة، وتحديدًا عند مفترق السرايا، يقف عدد من الباعة يعرضون أكياس الدقيق بأسعار تتغير باستمرار. المشهد يعكس واقعًا مريرًا، حيث يبحث المواطنون عن السلع الأساسية بين الأسواق، فيجدونها إما مفقودة أو بأسعار باهظة، وسط غياب أي رقابة حقيقية.
أزمة الاحتكار تفاقمت مع استمرار الحرب الإسرائيلية، مما جعل من الوصول إلى المواد التموينية تحديًا يوميًا لأكثر من مليوني فلسطيني، في ظل تعطيل الاحتلال للجهات الحكومية المعنية بضبط السوق والأسعار.
أسباب الاحتكار: بين التقييد الإسرائيلي واستغلال التجار
تحكم محدود بالاستيراد
يرى خبراء اقتصاديون أن أحد أبرز أسباب أزمة الاحتكار في غزة هو حصر الاستيراد ببعض الشركات التي كانت تتعامل مع الاحتلال أو الجانب المصري خلال فترات سماح مؤقتة، مما مكنها من فرض أسعار مرتفعة لتحقيق أرباح طائلة.
الاحتكار في أوقات إغلاق المعابر
برز خلال الحرب تجار وأطراف قاموا بشراء البضائع من الأسواق، أو حتى بعض المساعدات التي تباع لاحقًا، وتخزينها في مخازن سرية لإعادة بيعها بأسعار مرتفعة بمجرد إغلاق المعابر.
الواقع بالأرقام: شحنات لا تكفي وطلب متزايد
تشير بيانات رسمية إلى أن عدد الشاحنات التي دخلت غزة خلال الحرب لم يتجاوز 9% من معدل ما قبل السابع من أكتوبر 2023.
- قبل مايو 2024: 35–43 شاحنة يوميًا
- خلال التهدئة في يناير 2025: ارتفعت إلى مئات
- بعد مارس 2025: أُغلقت المعابر مجددًا
ويحتاج القطاع فعليًا إلى أكثر من 700 شاحنة يوميًا لتلبية الاحتياجات الأساسية، مقارنة بمتوسط دخول 450 شاحنة في الأوضاع الطبيعية.
احتكار مزدوج: الغذاء والسيولة النقدية
تحكم بالأسعار وسوق الصرافة
الباحث الاقتصادي أحمد أبو قمر أكد أن حصر الاستيراد في خمسة تجار فقط سمح لهم بالتحكم التام بالسوق، حتى إنهم باعوا تنسيقات الاستيراد لتجار آخرين بأسعار باهظة، ما رفع الأسعار بنسبة تجاوزت 1000% لبعض السلع.
ولم يتوقف الأمر عند ذلك، بل امتد إلى التحكم بعمليات “التكييش” (تحويل الحسابات البنكية إلى نقد)، ما أدى إلى تضخم غير مسبوق، وفرض عمولات وصلت لأكثر من 40%، في ظل غياب دور فاعل لسلطة النقد.
رفض العملات الصغيرة
وأشار أبو قمر إلى أن بعض التجار رفضوا التعامل بفئة العشرة شواقل والأوراق النقدية القديمة، مما سبب فوضى في السوق، وجعل عملية التبادل النقدي أكثر تعقيدًا.
شلل حكومي مقصود وغياب الردع
مصدر في وزارة الاقتصاد الوطني بغزة كشف أن الاحتلال استهدف الطواقم الحكومية المكلفة برقابة السوق، مما أضعف قدرة الوزارة على التدخل، خاصة مع مقتل العديد من كوادرها، بمن فيهم قياديون بارزون.
وأضاف المصدر أن الأسواق تخضع اليوم لثلاثة مسارات تحكم:
- التحكم الإسرائيلي في التنسيق والكميات
- الاحتكار المحلي بتخزين السلع
- بيع المساعدات بعد شرائها من مستحقيها
ورغم جهود الوزارة بتحديد الأسعار وتنفيذ حملات تفتيش، فإن غياب الردع، وتعرض الموظفين للتهديد، منع تلك الجهود من تحقيق نتائج ملموسة.
نحو حلول واقعية: التوصيات والخطوات المقترحة
يؤكد خبراء أن تجاوز هذه الأزمة يتطلب أولًا وقف العدوان وعودة السوق الحرة، وتحرير عملية الاستيراد من قبضة التجار المحتكرين.
ويقدّم “الائتلاف من أجل النزاهة والمساءلة – أمان” عدة توصيات، أبرزها:
- الضغط على الاحتلال لفتح المعابر وتسهيل دخول المساعدات.
- تمكين وزارة الاقتصاد من أداء دورها الرقابي، ودعم الطواقم الميدانية.
- تعزيز منصات الشكاوى وتفعيل دور القطاع الخاص في التوعية.
- وضع إجراءات صارمة لردع المحتكرين.
- وقف العمولات الباهظة على السيولة، بالتنسيق مع الغرف التجارية وسلطة النقد.