أفران الطين في غزة: جمر الصمود تحت رماد الحرب
في قلب قطاع غزة، حيث تختلط رائحة البحر بنفحات الرماد ودخان الحرب، ينبعث وهج أفران الطين — تلك القباب الطينية التي تحولت من رمز تراثي إلى شريان حياة في ظل واحدة من أشرس حملات الإبادة في التاريخ الحديث.
منذ اندلاع حرب الإبادة في أكتوبر 2023، وجدت غزة نفسها في مواجهة حصار خانق تجاوز كل حدود الإنسانية: شلل تام في المخابز، انقطاع كهربائي دائم، وشلل في خطوط إمداد الغاز والوقود. كل هذا دفع سكان القطاع إلى العودة لما حفظته ذاكرتهم الجماعية: أفران الطين.
نار الطين… رغيف البقاء
بحسب برنامج الأغذية العالمي (WFP)، يعيش 90% من سكان غزة اليوم على المساعدات الإنسانية، في وقت أصبحت فيه الأسواق خاوية والخدمات الأساسية مشلولة. هنا تظهر أفران الطين كمعجزة صغيرة.
تُبنى هذه الأفران يدويًا من خليط الطين والقش والماء، تشعل بنيران الحطب، مخلفات الخشب، أو حتى الأثاث المدمّر المنتشل من تحت الأنقاض. بداخلها تُخبَز أرغفة الخبز البلدي، تُطهى وجبات بسيطة، وتُبث رائحة حياة في أزقة المخيمات التي يغطيها غبار الحرب.
النساء: عماد الصمود اليومي
وفق تقرير حديث لصندوق الأمم المتحدة للسكان (UNFPA)، النساء هنّ من يحملن عبء هذه الحرب المزدوجة — إذ يتولين ليس فقط رعاية أسرهن وسط القصف والنزوح، بل أيضًا ابتكار طرق للبقاء. كثيرات منهن يدرن أفران الطين، يخبزن لجيرانهن، يوزعن الطعام على مراكز الإيواء، أو حتى يبعن الفطائر البسيطة مقابل أي مورد يمكن تأمينه.
هنا، لا يتعلق الأمر بمجرد طعام، بل بنسج خيوط التضامن المجتمعي، بدوائر من الدفء وسط العراء والبرد، في مشهد تقول عنه أم محمد (في مقابلة مع شبكة الجزيرة، فبراير 2024):
“بنبني أفران بالطين ونخبز لكل الحارة… اللي معنا بنقسمه، ما إلنا غير بعض.”
مخاطر صامتة وسط اللهب
لكن الصمود لا يخلو من الأثمان. بحسب مركز العمل التنموي (معًا)، فإن الاستخدام الكثيف للحطب ومخلفات البلاستيك في إشعال الأفران رفع مستويات تلوث الهواء، خصوصًا في الخيام والملاجئ التي تفتقد إلى التهوية. هذا يعرض الأطفال والنساء خاصة لمشاكل تنفسية قد تكون قاتلة في غياب الرعاية الصحية.
أفران الطين: جمر لا ينطفئ
في النهاية، أفران الطين في غزة ليست مجرد وسيلة طهو. إنها تلخيص مكثف لحكاية شعب يقاوم الإفناء: يحفر الأرض ليصنع منها سلاحه الأول — الرغيف. إنها عنوان لإرادة البقاء التي لم تنكسر رغم الركام والجوع.
وسط صمت المجتمع الدولي، وبين ركام البيوت المقصوفة، يقف الغزيون حول أفرانهم، يتقاسمون رغيفًا بنكهة الطين والنار. وما دام هناك حجر وطين ونار، هناك حياة تنبض بين الرماد.