وسط ركام البيوت المحطمة ورائحة الدخان التي تتسلل إلى الأرواح قبل الأنوف، تعيش آلاف العائلات في قطاع غزة تفاصيل يومية لا تحتمل، تبحث فيها عن وسيلة بسيطة لطهو طعامها، ولو كانت تلك الوسيلة نارًا من البلاستيك أو الحذاء القديم.
واقع يفرض نفسه بالقوة
ليس الغلاء في غزة أمرًا جديدًا، لكن حين يصبح إشعال النار لطهي العدس مغامرة قد تكلفك حياتك أو دخلك اليومي، فهنا تتحول الحياة إلى معركة بقاء حقيقية.
الحطب، الذي كان حتى وقت قريب بديلاً مقبولًا في ظل انقطاع الغاز، أصبح اليوم سلعة نادرة وسعره فوق قدرة الغالبية.
نار الغلاء… وخطر الطريق
سعر كيلو الحطب وصل إلى 7 شواكل، وقد يرتفع أكثر في الأيام المقبلة. وفي ظل هذا الغلاء، لا تملك عائلات كثيرة خيارًا سوى البحث عن أي شيء يشتعل، حتى لو كان مليئًا بالسموم.
أم رامي، نازحة من الشمال، تقول بصوت متعب:
“نجمع النايلون والخرق القديمة.. نعلم أنها تضر، لكنها أهون من الجوع”.
أما أبو حسام، وهو يعيل 8 أفراد، فيحمل كل صباح أمله على كتفيه ويغادر بحثًا عن بقايا خشب بين الركام، مضيفًا:
“وجبة عدس تحتاج حطبًا بـ14 شيكل.. من أين نأتي بها؟! الغاز مفقود، والاتجاه الخطأ يعني أننا لن نعود”.
مناطق الموت.. من أجل وجبة ساخنة
تحولت مساحات شاسعة من غزة إلى مناطق حمراء، ممنوع دخولها إلا بالمخاطرة. بعض الأطفال والشبان دفعوا حياتهم ثمنًا لمحاولة جمع الحطب. الاحتلال لا يفرّق بين من يحمل سلاحًا أو قطعة خشب.
أبو طارق، تاجر حطب، يوضح أن شحّ المصادر وارتفاع المخاطر جعل السعر يرتفع بجنون:
“الناس تجازف بحياتها لتجمع الحطب.. وهذا سبب أن الكيلو أصبح يُعامل كأنه ذهب”.
عندما تصبح النار سامة
لم يعد الأمر يقتصر على الفقر والجوع، بل أصبح يهدد الصحة أيضًا.
د. بسام أبو ناصر، يشرح كيف أن حرق النايلون والبلاستيك يُطلق مواد مسرطنة ومسببة لتليّف الرئة:
“عدد المصابين بأمراض صدرية تضاعف، والبخاخات لا تكفي أكثر من أيام قليلة بدل شهر.. هذا خطر صامت يقتل ببطء”.
صمت العالم.. والناس تحترق
في وقت يغيب فيه الدعم وتختفي فيه الاستجابات، تقف العائلات وحدها في مواجهة أزمة تتضاعف يومًا بعد يوم.
لا صوت يسمع شكواهم، ولا يد تمتد لتنتشلهم. الأزمة تحاصرهم في أصغر تفاصيل حياتهم: في الطهو، في التنفس، في البقاء.